ياسر ذو الـ29 عاماً والذي يعمل في القطاع الخاص كان ينهي قراءة العديد من الكتب الثقافية على متن الحافلة، بغض النظر عن الازدحام الشديد الذي تشهده الطرقات، والوقت الشاسع الذي تستغرقه رحلة الذهاب والعودة من العمل”، إلا أنه وكما يروي انقطع عن ركوب الحافلات عند شرائه سيارة خاصة.
وتعدّ حافلات النقل العمومي في غالبية بلدان العالم، وسيلةً ناجعة للتنقل، في ظل ارتفاع أسعار البنزين وأسعار السيارات في تلك البلدان. وفي المقابل، تنخفض أسعار البنزين إلى جانب التسهيلات التي تقدمها شركات السيارات في التقسيط، وهي عوامل يصفها مراقبون بأنها “أسهمت في اقتصار استخدام الحافلة، على العمالة أو شريحة ميسوري الدخل”.
ومع وصول “التاكسي، والسيارات الخصوصية التي تنقل الركاب بنفس القيمة انقضت آمال أصحاب الحافلات، في جني الربح الذي كانت تجنيه الحافلات سابقا”.
ويؤكد سالم الشمراني صاحب إحدى الحافلات من خلال حديثه لـ”الوطن” قائلا “لم أستطع تجديد الأوراق الرسمية الخاصة بالحافلة، نظرا لقلة الإيرادات”.
وبين ما يعانيه سائقو الحافلات من مشاكل في الوقت الراهن، والذكريات الجميلة للسائقين ومرتاديها الذين يحبذون تسميتها بـ”خط البلدة”، موسيقى صامتة، رصدتها “الوطن” عبر الحديث مع السائقين، من نقطة الانطلاق المركزية للحافلات في باب مكة.
ولفت الشمراني (62 عاما) إلى أن “التواجد الأمني يدفع بشريحة كبيرة من الأجانب والمقيمين إلى عدم المغامرة بالركوب في الحافلة تجنبا للمضايقات”. مضيفاً “أنهم الشريحة التي تستخدم الحافلات في تنقلاتها، باستثناء بعض الشبان وطلاب المدارس السعوديين”.
ويضيف الشمراني “في المقابل هناك من يقاسمنا أرزاقنا بطرق غير قانونية من سائقي السيارات الخصوصية، الذين يستأجرون السيارات، ويعملون في نقل “الركّاب” بنفس أسعارنا، مع فارق السرعة والمظهر للسيارة الخصوصية”.
ويتابع الشمراني الذي يعمل منذ 13 عاما في قيادة الحافلات: “يُركبون الشخص بـ”ريالين” فقط، ويعرضون السيارة أمامنا بهدف “المضايقة”، وعندما تحصل حادثة ما، فورا يتم توجيه اللوم إلى الحافلة النظامية، دون أن يُعاقب صاحب السيارة الخصوصية “غير نظامي”.
وقال متسائلاً “إلى من يوجّه الخطأ عندما يصطدم بك أحدهم من الخلف؟”. وأجاب: من المؤكد على الصادم من الخلف حسب تعليمات المرور، لكن المرور يتهمنا دائما بقول “أنتم تعطّلون حركة السير”.
ويستدرك الشمراني بالقول “إن جئت من اليمين قالوا مخالفا، وإن جئت من اليسار نفس الشيء، من أي جهة يريدون منّي أن أتوقف ليركب الراكب!”.
من جانبه، يشير العم عائض المطيري (57 عاما) إلى شريحة مستخدمي الحافلات في جدة، بالقول: إن استخدام السعوديين للحافلة “ضئيل مقارنة بالجنسيات الأخرى “. وبالأخص “العمالة” كأوسع شريحة تستقل الحافلة في تنقلاتها.
المطيري يعمل في حافلة أحد أقاربه، مقابل 150 ريالا لليوم، ويقتات مع أسرته على باقي الإيراد الضئيل، متمنيا ” عدم الحكم المسبق من قبل رجال المرور على سائقي الحافلات مع وضع تسهيلات أكثر في استخراج وتجديد التراخيص.
وحول ما تجنيه الحافلة يوميا، أكد المطيري أن “أكثر الإيرادات تأتي يوم الجمعة، حيث تصل إلى 300 ريال، أما بقية أيام الأسبوع، فتتراوح الإيرادات بين 190 إلى 250 ريالا كحد أقصى، منوها إلى أن المكاسب الكبيرة كانت في الماضي إلى ما قبل عشرين عاما قبل أن تزدحم الشوارع وتنتشر السيارات الخاصة.
ويضيف: كنا قبل أزمة الخليج، نجني نحو 700 ريال يوميا، أما الآن فتعدد الوسائل إضافة إلى سهولة الحصول على سيارة، أزاحا هواجس المكسب الكبير لدى سائقي الحافلات.
وعند الحديث عن الحافلات، لم يتجه السائقون نحو ترشيح شخص مرجعي، والذي يطلق عليه عادة “شيخ الصنعة” أو رئيس الطائفة، على غرار “شيخ المعارض” للسيارات، و”شيخ الصاغة” لدى بائعي الذهب، إذ أكد ذلك لـ”الوطن” أبو سعيد الذي يعمل في الحافلات منذ 30 عاما.
ومن داخل حافلته التي كانت متوجهة من طريق المدينة المنورة إلى باب مكة، يقول أبو سعيد البالغ من العمر 80 عاما “لا يوجد لدينا شيخ للحافلات”، وأضاف مازحا “كل واحد شيخ على نفسه” مبيناً أن المشاكل تُوجّه إلى الجهات الأمنية مباشرة”.
ويسكن أبو سعيد في مكة ويعمل بحافلته في جدة، وهو لا ينتظم بالعمل اليومي بهدف “تعديل المزاج” حسبما يقول. ويعلل:”حتى لا أغضَب، ولا أُغضب أحدهم”. في إشارة إلى وجود خلافات وضغوط أثناء التعامل مع مختلف شرائح الركّاب.
من جانب آخر، يتذكر الشاب نايف حسن ، وهو موظف في المؤسسة العامة للبريد السعودي ، أيام استقلال الحافلة بشكل يومي أثناء دراسته في المرحلة المتوسطة. بيد أن المفارقة تأتي هنا من خلال رسوم الطلاب، إذ تنقل الحافلة الطلاب مقابل ريال واحد.
ويقول نايف (30 عاما) “كنت أستقلها يوميا من وإلى المدرسة، وكان هنالك بعض الأصدقاء يرافقونني في الذهاب والعودة بنفس القيمة”.
ويعاود أبو سعيد الحديث قائلاً “إن نظام إركاب الطلاب بسعر منخفض، عادة اتخذتها الحافلات الأهلية منذ أيام “أربعة قروش”. مستطردا “كان الطلاب يركبون الحافلة مجانا، ثم فُرض قرشان للطالب، وحاليا بريال واحد فقط، عقب ارتفاع أسعار المعيشة”. وأكد “أن هذا النظام غير مفروض علينا، ولكنه وسيلة لدعم الطلاب، ومراعاة لظروفهم المادية”.
إلى ذلك، يقطع سكان جدة، نحو 800 ألف رحلة يومية بواسطة النقل العام، وهي جزء من نحو 7 ملايين رحلة يقطعها السكان بشكل عام، وذلك حسب دراسة أعدها أستاذ التخطيط الحضري في كلية تصاميم البيئة بجامعة الملك عبد العزيز في جدة الدكتور جمال عبد العال.
وأشارت الدراسة إلى أن “إزالة المحطة المركزية الواقعة في باب مكة التي كانت معدة لاستخدامات النقل الجماعي ـ وتستخدمها حتى الآن الحافلات الأهلية كنقطة انطلاق بشكل غير نظامي ـ أثّرت بشكل واسع على انخفاض عدد الركاب الذين يستخدمون (النقل العام) كوسيلة للتنقل”.
وأوضحت الدراسة “أن الحافلات في جدة تسير في 10 مسارات، وهي طريق المدينة المنورة، المنطقة الصناعية، شارع فلسطين – الحلقة، طريق مكة- الجامعة- قويزة، حائل – الرويس، طريق مكة المكرمة، طريق المحجر، طريق مكة – شارع بن لادن، شارع الأمير ماجد، طريق المدينة – الخالدية”.
وفيما يتعلق بالحلول، يؤكد الدكتور عبد العال لـ”الوطن” أن النقل العام يعد منظومة متكاملة، وللحصول على نتائج جيدة تتعلق بوسيلة ما، يتوجب إعادة النظر في جميع وسائل النقل، وإعادة تنظيمها بشكل يتسق مع تحقيق الأهداف العامة للنقل، والخاصة بالوسيلة المزمع تحسينها.
ويطالب الدكتور عبد العال بإنشاء مؤسسات أهلية مستقلة للحافلات الخاصة، تنظم وتخصص المسارات، مع تزويد المسارات غير الجالبة للأرباح، عبر إعانات أو تعويضيات تسهم في عمل الموازنة بين المسارات المربحة وغير المربحة للحافلات.
إضافة إلى إيجاد توازن مقبول لاستخدام وسائل النقل الخاصة والعامة ، إذ يسيطر النقل الخاص على نسبة عالية جدا من حجم الطلب على التنقل، وذلك بتفعيل دور النقل العام، ومنحه مميزات وأولويات في الحركة خصوصا داخل المدينة.
وعلى المدى الطويل، يؤكد أستاذ التخطيط الحضري في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، على أهمية تطوير إستراتيجية وطنية لتفعيل استخدام وسائل النقل العام في البلاد، تشمل إنشاء مركز معلومات خاص بوسائل النقل العام لتتماشى مع وسائطه، فضلا عن وضع بعض العوائق المالية والفنية التي تهدف إلى تقليل استخدام المركبة الخاصة وذلك بتطوير قطاع النقل العام بواسطة الحافلات.
تصميم مشروع النقل العام بجدة خلال سنة
كشف مدير إدارة الطرق والنقل في مكة المكرمة المهندس مفرح الزهراني لـ”الوطن”، عن “ترسية مناقصة تصميم نظام النقل العام في جدة، وذلك خلال فتح للمظاريف تم الشهر الماضي”. مبيناً أن تصميم برنامج النقل العام لن يستغرق أكثر من سنة واحدة. دون أن يكشف عن تفاصيل أخرى. واكتفى الزهراني بالقول: إن دراسة النقل العام التي تطلبّت طرح مناقصة لتصميم البرنامج، تعدّ نظاما متكاملا، يشمل جميع المسارات التي تؤدي إلى ربط المدينة، وتوفير نقل عام لجميع فئات المجتمع.
وبين الزهراني أنه “سيُنظر في طريقة طرح المشروع خلال مرحلته التنفيذية، حسبما تؤول إليه الأمور عقب الانتهاء من مرحلة التصميم”. مردفا أنه “سيتم وضع نطاق عمل محدد”.
اشترك بالقائمة البريدية
احصل على أخبار وأسعار السيارات أول بأول
اختر علامتك لمتابعة أخبارها وسياراتها